في شتاء عام 1903 ، في أحد أيام نوفمبر حيث كان الجو قارس و الأمطار تهطل بغزارة ، كنتُ جالساً على مقعد المكتب أتصفح العدد 56 من جريدة نيوز و أشرب الشاي بينما كان صديقي هوروود مسطحاً على الأريكة أجدد له الكمادات كل خمسُ دقائق حيث أن حرارته كانت مرتفعة لا يستطيع الحراك و كنت قد استدعيتُ أحد الأطباء الذي يقطن على بُعد شارعين من مسكننا ، و بعد وصول الطبيب أخبرني بأن صديقي مصاب بالحُمى و لم يكن بوسعي سوى تجديد الكمادات له و على الرغم من ذلك كان صديقي يتابع ما يجري في المدينة حيث كان يطلب مني أن أقرأ له العدد 56 من الجريدة ، لم يكن هناك أي خبر عن جرائم تحدث إلا أنه كان هناك خبراً سيفاجئ هوروود و كنت قد قرأت له الخبر التالي : ' المجرم سباستيان بيرانس يخرج من السجن حراً طليقاً بعد قضاءه حكم ثلاث سنوات حيث أنه قام بمضي تعهد و دفع مبلغ مالي . '

صاح هوروود بصوت خافت : " ماذا ؟! تم إطلاق سراحه ! إنه لمجرم خطير و أظن أن هذا خطأ فادح ستدفع نيويورك ثمن هذا . "

رميتُ الجريدة على المكتب و توجهت نحو النافذة انظر إلى الأمطار الغزيرة و أجواء الشتاء التي أحبها و إذ أرى ساعي البريد من خلال النافذة يتجه نحو باب مسكننا ..قلتُ و أنا أهم بالخروج من الحجرة : " هوروود ، يبدو أن هناك برقية قادمة ، أتمنى أن يكون خيراً . " و فتحت الباب و استلمتُ البرقية ثم توجهت مجدداً للحجرة و جلستُ على المكتب أقرأ ما هو مكتوب على ظهر الرسالة .. ' إلى المحقق ستيف هوروود ، شارع وول ' و قمت بفتح الظرف لأرى ما تحتويه الرسالة و قرأتها لهوروود ' السيد ستيف هوروود ، نحتاج إلى مساعدتك لحل قضية معقدة ، مدير شركة رايث انفرميشن وُجد مقتولاً في مكتبه هذا الصباح .. التوقيع المفتش جايسون هيرد '

قلتُ : " أوه هوروود ! إنه المدير الذي قمتُ بإستجوابه في قضية ثمان ساعات ، كيف قُتل يا تُرى ! "

" إنك ترى حالتي يا أديسون ، لن أتمكن من أن أشارك في هذه القضية ، ستكون أنت عوضاً عني .. أتمنى لك التوفيق في هذه القضية . "

" أخشى أنني لن أتمكن من حل شيء ، إن عقلي ليس كعقلك إطلاقاً . "

" أعلمني بكل جديد يا أديسون ، عملاً موفقاً . "

خرجتُ من المنزل مستقلاً سيارة هوروود و اتجهت إلى شارع باوري حيث مكان الجريمة و دخلتُ الشركة في الطابق السادس حيث كان مكتب الضحية ، و قابلتُ المفتش جايسون و رجال الشرطة هناك حيث لم يمسوا أي شيء من مكان الجريمة لحين وصولي ، قال المفتش جايسون : " عجباً ! ألن يأتي السيد هوروود ؟ "

" السيد هوروود مصاب بالحُمى مع الأسف الشديد و لا يمكنه القدوم ، سنحل هذه القضية معاً و سأعلم السيد هوروود بكل ما يجري . "

و تقدمت نحو الضحية السيد كلارك هدسون حيث كان ميتاً و هو جالس على مقعد مكتبه و كان فنجان قهوته مسكوباً و قد اتسخت بعض الأوراق و الملفات التي على المكتب ، و لكن لم يكن في المكان أي دماء و لا يوجد به أي جروح تشير إلى أنه قُتل ..

قلت : " هل أنت متأكد من أنها جريمة قتل أيها المفتش ؟ لا يبدو أنها كذلك ! "

" نعم سيد أديسون ، إنها جريمة قتل هذا شعور كبير لدي و لكن كل ما في الأمر أنني لا أملك أدلة على ذلك . "

تفحصتُ الضحية و بدأت أتفقد كل مكان بها حيث وجدتُ بقع حمراء أسفل الرقبة و كانت قد مُسحت بمنديل و لكن آثارها كانت موجودة و شككت للحظة أنها كانت أحمر الشفاه و كان هناك منها بقع واضحة على القميص عند الرقبة يُخفيها جاكيت البدلة الرسمية ، و عندها بدأت بطرح الأسئلة على سكرتيرة المدير السيدة آمبر جوليان :

" من زاره اليوم ؟ "

" زوجته ، جاءت في قريب العاشرة و النصف . "

" متى غادرت ؟ "

" الحادية عشرة ، أظن أنها جاءت ليتفقا على موعد للخروج إلى إحدى المطاعم . "

" من دخل مكتب الضحية غيرها ؟ "

" السيد لينكن ، السيد مورفيان ، و أنا . "

" من أحضر له القهوة ؟ "

" أنا أخذها من النادل و أدخلها إليه بناءاً على طلبه "

شكرتُ السيدة جوليان و توجهت نحو المفتش جايسون و قلت له : " توفت الضحية الساعة الثانية عشر و النصف أي بعد خروج زوجته بساعة و نصف و بهذا أستبعد أمرها . " ثم توجهت إلى الموظفان السيد لينكن و سألته بعض الأسئلة و يليه السيد مورفيان ، و بعد أن انتهيت من طرح الأسئلة عليهم طلبتُ من الشرطة نقل الجثة و أخبرتُ المفتش بأننا سنتقابل غداً مجدداً في الشركة ، ثم توجهتُ لشارع وول لأُعلم هوروود بما حدث ، كان ما يزال متعباً و لكن الحُمى قد خفت عنه قليلاً حيث انخفضت حرارته ثلاث درجات ..

" هوروود ، في الحقيقة لا يوجد أدلة ترشدنا إلى القاتل البتة ! كل ما وجدتهُ هو آثار بقع من أحمر الشفاه على أسفل عنق الضحية و بقعة عند عنق القميص ، البقع التي كانت على عنقه كان قد مسحها بشيء ما أما التي على القميص كانت موجودة بشكل واضح . "

" من كان في مكتبه قبل أن يموت ؟ "

" زارته زوجته ، و من ثم دخل مكتبه موظفان ، و السكرتيرة كانت تدخل المكتب لتعلمه بأن زوجته جاءت و الموظفان جاءا . "

" و هل بقي حياً بعد لقاءه بهم ؟ "

" نعم . "

و فجأة عاد التعب إلى هوروود مجدداً و قد بدا لي أن حرارته ارتفعت أيضاً و شحُب وجهه أكثر و قال لي بصعوبة بالغة : " آسف يا أديسون ، لن أتمكن من مساعدتك فأنا مرهق جداً.. و يبدو أنني لن أستطيع التفكير ، فقط اذهب إلى السيد هنري ليود في شارع بيكمان ، سيساعدك في حل هذه القضية ... " و من ثم غاب هوروود عن الوعي و لم يسنح لي أن أستفسر أكثر عن هذا السيد فذهبتُ إلى هناك و أنا لا أعلم من هو و ما علاقته بكشف الجرائم ، كان يقطن في البناء 201 في شارع بيكمان طرقتُ الباب و فتح لي الخادم و سألته عن صاحب الاسم اذا كان موجوداً فرحب بي الخادم و أدخلني عند سيده كان رجل عاجز يجلس على كرسي متحرك و كان جسده ضعيفاً و وجهه نحيفاً ذو أنف طويل و عينان سوداوتان بدا لي أنه يبلغ من العمر ما يقارب الخمسة و أربعون ، فرحب بي ضاحكاً و قد ظهرت لي أسنانه حيث السن العلوي الأمامي الأيمن كان مكسوراً و أحد الأسنان السفلى أيضاً و كانت أسنانه صفراء جداً حيث بدا لي أنه يدخن إلى حد مفرط جداً ، عرفتُ عن نفسي له قائلاً : " أنا المحقق جاك أديسون ، أرسلني إلى هنا السيد هوروود إنه مصاب بالحُمى و لا يمكنه الحراك و لذلك أتيتُ إليك ، قال لي أنك تستطيع مساعدتي في القضية التي أواجهها الآن ،

ثم أكملت بتردد

في الحقيقة .. ل-لا أعلم كيف يمكنك مساعدتي فكما يبدو لي أنك لست محققاً ! "

" أهلاً بك سيد أديسون ، دعني أعرفك على نفسي .. أنا المحامي هنري ليود ، أبلغ من العمر سبعة و أربعون عاماً درستُ في جامعة هارفارد القانون و حصلتُ على درجة دكتور في القانون و كما قلت أنا لستُ محققاً و لكن في أحد أيام حزيران عام 1868 وكلتُ للدفاع عن متهم بجريمة قتل ، لم يكن هناك أدلة كافية تبرئ المتهم و لكنني كنت على قناعة تامة بأنه لا علاقة له بالجريمة و أعطيتُ وعداً لزوجته أنني سأفعل كل ما بوسعي لتبرئة زوجها و من هنا بدأت أحقق بالقضية و أعمل على إيجاد أدلة كافية و في الحقيقة وجدت ما يكفي من أدلة لتبرئة المتهم من الجريمة و في يوم المحاكمة و عندما كنتُ في طريقي للمحكمة اعترض طريقي ثلاثة أشخاص و قاموا بضربي بالعصي و أحدهم ألقى حجراً كبيراً على ظهري و هربوا ، ظنوا بأنني مُت و لكن شاء القدر أن أصبح عاجزاً كما ترى و أبقى حياً لأنقذ ذاك المتهم من الحكم و نفذتُ وعدي بعد ذلك و أنقذته. "

كنتُ أصغي له بإهتمام فقد جذبتني قصته فقلت : " إنك قصتك بها لغزٌ يا سيدي ، في الحقيقة إنها مثيرة للاهتمام ، ألم تعلم من فعل بك تلك الفعلة الشنيعة؟"

" لا ، لقد كانت وجوههم ملثمة و لكنني كنتُ قد حفظت تركيبة أحد المهاجمين فقد كان ضخم البنية و كان مرسومٌ بيده وشم جمجمة باللون الأحمر ، بحثتُ عنه طويلاً و لكنني لم أجده ، المهم أخبرني الآن كيف يمكنني مساعدتك ؟ "

" السيد كلارك هدسون قُتل ظهر هذا اليوم في الحقيقة لا أعلم كيف قُتل فلا يوجد أي آثار جروح و ما شابه كان في تمام الساعة الثانية عشر ظهراً قد فارق الحياة و للأسف لا أدلة كبيرة ترشدنا إلى القاتل . "

و سألني السيد هنري عن الأدلة فأخبرته عنها ثم قال : " حسناً عزيزي أديسون ، أظن أن السيد هدسون قد قُتل مسموماً . "

فصحت : " و كيف ذلك ؟ لم يكن هناك أي آثار تدل على موته مسموماً فكما تعلم من يتسمم يخرج الزبد من فمه و لم يكن هذا موجوداً ! "

" إنه أمر بسيط جداً سيد أديسون ، يكون القاتل قد قام بمسح الزبد بمنديل ما و تخلص منه ، أي أنه تابع موت المدير حتى النهاية و أنت قلت أن السكرتيرة هي من تُدخل له الشاي و القهوة و هذا يدل على أنها هي من فعلت ذلك ، يبدو أنها وضعت السُم عندما استلمت القهوة من النادل ، فلو مات المدير خنقاً فسيحاول المقاومة و سيبعثر كل ما في المكتب بيده و لأصدر صوتاً ، و لو لم يصدر صوتاً لسكب فنجان القهوة على الجهة المعاكسة له من المكتب و لكان الفنجان بعيداً عنه و ربما كان ليسقط ، و لكن عندما قلت لي أن اصبعاه كانا يشيران بأنه كان يمسك فنجان القهوة فهذا يعني أنه كان يحتسي القهوة و قد كان مفعول السُم قوياً و أثر به على الفور ، و عندما أخذ الفنجان ليحتسي القهوة مرة أخرى كان السُم قد بدأ مفعوله و ألمه و بهذا سُكب فنجان القهوة على جهته و بالطبع قوة مفعول السُم قتلته على الفور و لهذا مازالت أصابعه تحمل الفنجان ، ما عليك فعله الآن هو البحث في الشركة عن منديل عليه آثار زبد ، فكما قلت فور وقوع الجريمة جاءت الشرطة و عندما غادرتم كنتم قد صرفتم الموظفين و أغلقتم الشركة و تركتم هناك أربعة رجال شرطة تحرس المكان و بهذا لم تسنح فرصة للقاتل بأن يتخلص من المنديل الذي مسح به الزبد ، اذهب إلى الشركة و ابحث عنه و أتمنى لك التوفيق سيد أديسون . "

في الحقيقة لم أقتنع كثيراً باستنتاج السيد هنري و لكن لم يكن لدي خيار سوى الذهاب إلى الشركة و تفحصها فالأمر بالنسبة لي معقد ، كانت الساعة العاشرة مساءً ، ذهبتُ للشركة و فتح لي رجال الشرطة الباب و دخلتُ أتفحص سلة المهملات القريبة من مكتب السكرتيرة فكل الشكوك تدور حولها و لم أجد عناء بإيجاد ذلك المنديل ، فبالفعل كان عليه زبد أخذته ثم توجهت إلى شارع وول أطمئن على هوروود ، و دخلتُ المسكن و صُدمت برؤيتي لهوروود جالساً على مكتبه يلعب البازل و لم يكن يبدو عليه مريضاً ..

صحت أقول : " هوروود ! الشكرُ للرب ، إنك بصحة جيدة تماماً. "

" إنني بحالة جيدة أديسون ، بدأت أشعر التحسن الشديد ، يبدو أن الحُمى بنهايتها .. أخبرني كيف سار الأمر ؟ "

و بدأت أشرح لهوروود نظرية السيد هنري و أريته المنديل فقال : " نعم ، هذا زبد بالفعل ، إذن القاتلة هي السيدة آمبر و أصبح لدي فضول لأعرف سبب فعلتها لتلك الجريمة ، سأكون معك في صباح الغد أديسون ، طابت ليلتُك . " و في صباح اليوم التالي ذهب هوروود معي إلى الشركة و كنا قد اتصلنا بالمفتش جايسون ليكون هناك ، و قد وصلنا إلى الشركة و قد سألنا عن السيدة آمبر فلم تكن قد جاءت إلى الشركة ، و سألنا الموظفين عن عنوان مسكنها و ذهبنا إلى هناك و طرقنا الباب فلم يُجيب أحد ثم قمنا بكسر الباب لنجد المسكن فارغاً .. التفت إلي هوروود و قال : " أقتنعت الآن بنظرية السيد هنري يا أديسون ؟ " و سأل المفتش ما الخطب ثم شرحنا له الاستنتاج الذي نملكه و بعدها قال هوروود : " يبدو أن السيدة آمبر كانت تراقب الشركة طوال الليلة الماضية حيث كانت تبحث عن فرصة لدخول الشركة للتخلص من ذلك المنديل و لكن عندما رأت أديسون يدخل الشركة ليلاً تأكدت بأنه قد كشف أمر المنديل و لهذا قامت بالهرب و لكنني لا أظن أن هروبها سيطول فستقع بقبضة العدالة بالتأكيد ، و لابد من أن أحمر الشفاه ذاك له علاقة بالأمر ، يبدو أنها كانت عشيقة المدير و ربما خدعها بشيء دفعها لقتله . "

و بهذا انتهى لغز مدير شركة رايث حيث هربت السيدة آمبر و لم نعلم السبب الذي دفعها لقتل السيد هدسون ...

انتهى#

2024/04/26 · 3 مشاهدة · 2081 كلمة
Musab Hassan
نادي الروايات - 2024